سبعة أشهر من الحرب على غزّة… إسرائيل في ضائقة دوليّة

[ad_1]

عرّفت الحكومة الإسرائيليّة الحرب على غزّة منذ شنِّها في تشرين الأول/ أكتوبر بأنّها “حرب وجوديّة وحرب استقلال ثانية”. الأهداف الإسرائيليّة الرسميّة والعلنيّة للحرب كانت القضاء على قدرات حماس العسكريّة والقدرات الإداريّة – السلطويّة، ومنع نشوء أيّ تهديد عسكريّ من غزّة على إسرائيل في المستقبل.

فيما بعد، أضيف إلى تلك الأهداف هدف تحرير الأَسرى والمخطوفين الإسرائيليّين لدى حماس. ومن الأهداف غير الرسميّة المعلَنة للحرب كان الانتقامُ من غزّة وسكّانها، وترميمُ صورة الردع الإسرائيليّة ومكانة إسرائيل الإستراتيجيّة في المنطقة، وثمّة ما لا يقلّ أهمّيّة عن هذا وذاك: إعادة ثقة المجتمع الإسرائيليّ بالدولة ومؤسَّساتها الأَمنيّة والسياسيّة.

بعد مرور سبعة أشهر من الحرب على غزّة، تجد إسرائيل نفسها في أزمة إستراتيجيّة، إذ لم تحقِّق أيًّا من أهداف الحرب المعلَنة، ولم تحرِّر الأسرى والمخطوفين، ولم تحسم الحرب، ولم تتمكّن من فرض شروطها لوقف إطلاق النار، على الرغم من قتل ما يقارب أربعين ألف (40,000) فلسطينيّ في قِطاع غزّة، وتدمير قرابة 70% من المباني السكنيّة والـمَرافق العامّة والبنى التحتيّة هناك.

للحرب على غزّة تداعيات عديدة على إسرائيل، من بينها ما هو عسكريّ وإستراتيجيّ، ومن بينها ما يقع على المشهد السياسيّ الداخليّ وعلى التصدُّعات داخل المجتمع الإسرائيليّ، ومنها ما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة، ومنها ما يخصّ المشهد الدوليّ.

تتناول ورقة الموقف هذه جزءًا من تداعيات حرب الإبادة على قِطاع غزّة على مكانة إسرائيل الدوليّة، ولا سيّما الجوانب غير الرسميّة، أي تلك التي لا تتعلّق بمواقف ومؤسَّسات الدول، ومن بينها بداية نشوء مقاطَعة دوليّة جِدّيّة، غير رسميّة، للأكاديميا الإسرائيليّة، ومقاطَعة عالميّة لأعمال فنّيّة وثقافيّة، ومنها تصاعُد لحركات الاحتجاج الطلّابيّة في الجامعات الأميركيّة. وتقرأ هذه الورقة هذه التداعيات من المنظور الإسرائيليّ الرسميّ وغير الرسميّ، والذي يخشاها كثيرًا، من ناحية، ومن ناحية أخرى يحاول تشويه صورتها.

ترى ورقة الموقف هذه أنّ التحوُّلات في هذه الجوانب باتت تؤرّق المؤسَّسة الإسرائيليّة، وتزيد من أزمة إسرائيل وعزلتها الدوليّة، وإنْ كانت نتائجها بطيئة ومتراكمة وليست فوريّة. فبدلًا من أن تؤدّي الحرب إلى تغيير حالة إسرائيل الأمنيّة والإستراتيجيّة والدوليّة، كما أرادها صُنّاع القرار في إسرائيل، جاءت – بفعل جرائم القتل والدمار وإنكار الحقّ الفلسطينيّ – بنتائج عكسيّة، وتحوّلت إلى حالة ضاغطة على مكانة وصورة إسرائيل العالميّة، وضاعفت من مأزقها؛ وهو ما ينعكس في خطابات وتحليلات صادرة من سياسيّين وأكاديميّين ومثقَّفين إسرائيليّين.

الأكاديميا الإسرائيليّة غير مرحَّب بها دوليًّا

يَعْرض مجلس التعليم العالي الإسرائيليّ في موقعه الإلكترونيّ العديد من الاتّفاقيّات الدوليّة للتعاون البحثيّ الأكاديميّ. من أهمّ وأبرز هذه الاتّفاقيّاتِ تلك الموقَّعةُ مع الاتّحاد الأوروبيّ والولايات المتّحدة، ومن بينها:

برنامج “هورايزن 2020” (“2020Horizon “): وهو برنامج إطار للبحث والتطوير التابع للاتّحاد الأوروبيّ، من بين الأكبر في العالَـم في مجال التعاون العلميّ والصناعيّ بميزانيّة 77 مليار دولار. الغرض من مشارَكة إسرائيل في هذا البرنامج هو تطبيع واندماج الأكاديميا الإسرائيليّة في المشاريع الأوروبيّة، وتوسيع مجالات النشاط العلميّ والصناعيّ الإسرائيليّ. فمنذ عام 1996، تتمتّع إسرائيل بمكانة دولة مشارَكة (Associated Country) في البرنامج، وهو ما يمنحها حقوقًا والتزامات متساوية مع تلك التي تتمتّع بها دول الاتّحاد الأوروبيّ. إسرائيل هي الدولة غير الأوروبيّة الوحيدة العضو في البرنامج (ولها مكانة مماثلة لمكانة كلّ من سويسرا والنرويج وتركيّا).

برنامج “إيراسموس +”: تشارك إسرائيل في برنامج “إيراسموس +” التابع للاتّحاد الأوروبيّ لدعم وتطوير التعاون الأكاديميّ الدوليّ، وتشجيع الابتكار والتميُّز في التدريس، مثل مشاريع بناء القدرات وتبادل الطلبة وأعضاء هيئة التدريس. ويُظهِر موقع مجلس التعليم العالي أنّه في فترة الأعوام 2014 – 2020 فازت مؤسَّسات التعليم العالي في إسرائيل باثنتين وعشرين (22) منحة مشروع، وبأكثر من 15 ألف منحة تَنَقُّل للطلبة وأعضاء هيئة التدريس بمبلغ يزيد عن 50 مليون يورو.

كذلك أقامت إسرائيل والولايات المتّحدة “صندوق أبحاث الولايات المتّحدة وإسرائيل” (BSF) للتعاون البحثيّ والأكاديميّ في العام 1972. عمل الصندوق على تعزيز العلاقات الأكاديميّة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل من خلال دعم الأبحاث المشترَكة والابتكارات لمجموعة واسعة من التخصُّصات العلميّة، وَفقًا لموقع الصندوق. لتوضيح أهمّيّة عمل الصندوق يشير الموقع، على سبيل المثال، أنّ ستّة من بين ثمانية من الحائزين على جائزة نوبل في العلوم عام 2004 حصلوا على منحة واحدة على الأقلّ من الصندوق.

كذلك أقامت إسرائيل برنامجَ أبحاثٍ علميًّا أكاديميًّا مع ألمانيا (GIF) في عام 1986، ابتغاءَ توفير فرص تمويل ومِنَح بحثيّة مشترَكة، وبخاصّة في مجال البحوث الأساسيّة، لمجموعات بحثيّة من الجامعات والمستشفيات ومؤسَّسات التعليم العالي الأخرى من إسرائيل وألمانيا. كذلك وقّعت إسرائيل على اتّفاقيّات تعاون بحثيّ وأكاديميّ خاصّة مع الصين والهند وسنغافورة في العَقدَيْن الأخيرَيْن.

على مدار عقود، وفّرت هذه الاتّفاقيّات مليارات الدولارات للبحث العلميّ والأكاديميّ الإسرائيليّ، ومنحت المؤسَّساتِ الأكاديميّةَ الإسرائيليّة الأدواتِ والمواردَ للانكشاف والتعاون الدوليّ، إلى أن باتت الجامعات والمؤسَّسات البحثيّة الإسرائيليّة من أبرز المؤسَّسات العلميّة الدوليّة. وقد استغلّت إسرائيل هذه المجالات كافّة للترويج السياسيّ وتسويق إسرائيل دوليًّا، وكسب الشرعيّة، وتعزيز مكانتها، واستغلّتها دبلوماسيًّا وأمنيًّا.

من الصعب قراءة ورصد جميع التغيُّرات التي قد تتطرّق على التعاقدات الإسرائيليّة الدوليّة في البحث العلميّ في أعقاب الحرب على غزّة، ولكن في الإمكان الإشارة إلى أنّه منذ الحرب على غزّة أخذت الصورة تتغيّر، مع وجود حالات عديدة من المقاطَعة غير الرسميّة للمؤسَّسات الأكاديميّة والبحثيّة الإسرائيليّة تصعّب على عمل هذه المؤسَّسات، وإن كانت لم تتحوّل بعد إلى إلغاء اتّفاقيّات تعاون أو مقاطَعة جارفة؛ إذ ثمّة تراجُع كبير لإمكانيّات التعاون بين المؤسَّسات الإسرائيليّة والأفراد ونظرائهم في العالم، وإلغاء مشاريع تعاوُن قائمة، وهو ما أصبح يقلق إسرائيل بشدّة.

في الحادي عشر من نيسان الفائت (11/4/2024)، نشر الصحافيّ أور كشتي تقريرًا موسَّعًا في صحيفة “هآرتس” حول مقاطَعة الأكاديميا الإسرائيليّة عالميًّا، قال فيه – في ما قال: “ثمّة حالات طرد للعلماء من مجموعات بحثيّة دوليّة، وإلغاء دعوات لمؤتمرات، وتجميد تعيينات، وإنهاء للتعاون الأكاديميّ، ورفض المقالات العلميّة لأسباب سياسيّة، وتخريب محاضرات، ورفض المشارَكة في إجراءات ترقية لأعضاء هيئات التدريس الإسرائيليّين”. يقول كشتي الذي حاور 60 باحثًا من الجامعات الإسرائيليّة: “لا مجال للشكّ: إسرائيل تواجه مقاطعة أكاديميّة غير مسبوقة، وتزداد صرامة”.

المقاطَعة تأتي من أفراد ومؤسَّسات في الأكاديميا العالميّة يرفضون علنًا التعاون مع أكاديميّين إسرائيليّين، ويرسلون رسائل توضّح أنّ أسباب الرفض نابعة من تصرُّفات إسرائيل في الحرب على غزّة، ومن جرائم الحرب وإبادة الشعب التي تقوم بها إسرائيل. وقد أجمع الأكاديميّون الإسرائيليّون أنّ الوضع الراهن لا سابق له، وأنّ ما يحدث يشكّل تهديدًا جِدّيًّا على القدرات البحثيّة والأكاديميّة للباحثين الإسرائيليّين، وقد يؤدّي إلى تجفيف موارد العمل الأكاديميّ الإسرائيليّ وأدواته.

وفي هذا السياق، ترى البروفيسورة ميليت شامير، نائبة رئيس جامعة تل أبيب والمسؤولة عن التعاون الأكاديميّ الدوليّ، أنّ “السيناريو الإيجابيّ هو أن نعود خلال وقت قصير إلى الوضع السابق وإلى حالة الاستقرار، ونستعيد مكانتنا في العالم، على الرغم من أنّ ذلك مستبعَد حاليًّا. والسيناريو الأسوأ هو أن نسير في اتّجاه حالة جنوب أفريقيا أيّام نظام الفصل العنصريّ”.

وفي استطلاع أَجْرتْه في بداية كانون الثاني الماضي مؤسَّسة “الأكاديميا الشابّة” ومؤسَّسة “أفيك”، وشمل 1,015 من أعضاء الطاقم التعليميّ الثابتين في الجامعات الإسرائيليّة، قال 32% من المشاركين إنّهم يعانون من ضرر جسيم أو جسيم جدًّا في علاقاتهم الدوليّة تجلّى في إلغاء دعوات الزيارات إلى المؤسَّسات البحثيّة في الخارج أو إلغاء المحاضرات أو العمل فيها. وقال 41% من الباحثين إنّ قدرتهم على تجنيد طلبة من خارج البلاد تضرّرت؛ وأفاد 15% أنّ قدرتهم على الحصول على تمويل من جهات دوليّة تضرّرت على نحوٍ بالغ أو بالغ جدًّا، وقال نصف الباحثين إنّهم خائفون من هذا الضرر، وأجاب 26% أنّهم يشعرون بأنّ إمكانيّات تقديم البحوث في المؤتمرات الدوليّة قد تراجعت.

وَفقًا للبروفيسورة رِفكا كرمي، رئيسة منظَّمة “التعلُّم في الخارج”، التي تساعد العلماء الإسرائيليّين في خارج البلاد، المؤسَّسة “تشعر بمقاطَعة غير معلَنة تشمل رفْضَ مقالات لباحثين إسرائيليّين أو تحكيمها، أو رفْضَ عروض للمشارَكة في مؤتمرات في إسرائيل، أو وقف دعوة الباحثين الإسرائيليّين للمشارَكة في مؤتمرات دوليّة”. وأضافت تقول: “إنّ احتمال إلحاق الضرر بالأوساط الأكاديميّة في إسرائيل نتيجة للمقاطَعة غير العلنيّة هو احتمال كبير وليس نظريًّا. وهذا مَصْدر قلق حقيقيّ”.

الفنّ والثقافة جزء من الاحتلال

في الثامن عشر من نيسان المنصرم (18/4/2024)، نشرت صحيفة “هآرتس” تقريرًا موسَّعًا لعدد من الصحافيّين يتناول المقاطَعة الدوليّة للثقافة والفنون الإسرائيليّة في العالم، جاء فيه أنّ مقاطعة الإنتاج الفنّيّ والثقافيّ الإسرائيليّ بدأت منذ تشرين الثاني الماضي في مهرجان للسينما في أمستردام، إذ احتجّ عدد من الداعمين للقضيّة الفلسطينيّة على مشارَكة فيلم إسرائيليّ في المهرجان. ويضيف التقرير أنّه في الأشهر التالية ازداد الوضع سوءًا. واليوم، يتعيّن على كلّ مهرجان سينمائيّ مهمّ – تقريبًا – التعاملُ مع المظاهرات المؤيِّدة للفلسطينيّين، وكلُّ مشارَكة لفيلم إسرائيليّ أو لمبدعين إسرائيليّين يجري تصنيفها مسبقًا على أنّها فضيحة محتمَلة.

وَفْقًا للتقرير، ليس من المستغرَب أن يفضّل مديرو المهرجانات الابتعاد في هذه المرحلة عن الأفلام الإسرائيليّة. المنتِجون والموزِّعون الدوليّون لا يريدون أيّ علاقة بالمشاريع الإسرائيليّة، ويجد صُنّاع الأفلام من إسرائيل أنفسهم منبوذين ومرفوضين. وقد أُلغِيَت العديد من مهرجانات الأفلام الإسرائيليّة الدوليّة في الأشهر الأخيرة، من بينها ما كان في لوس أنجلوس وكندا وإسبانيا ولندن. إسرائيل الآن هي النجم الجديد لثقافة الإلغاء العالميّة؛ إذ يعرف كلّ الخبراء في المهرجانات الدوليّة أنّ احتمال قبول المهرجانات الكبيرة لأفلام إسرائيليّة هو صفر. هذه الحالة قائمة كذلك في مجال عرض المسلسلات الإسرائيليّة في قنوات المسلسلات العالميّة، وكذلك في مَعارض الكتب، وفي دُور النشر العالميّة، وجميع الفعّاليّات الثقافيّة.

في تقرير صحفيّ سابق، نشره إيتمار كتسير وأوفير حوفيف في التاسع والعشرين من تشرين الثاني المنصرم (29/11/2024)، يستنتج الصحفيّان حدوث تغيُّر جوهريّ؛ إذ “فجأة يبدو أنّ الخيار الطبيعيّ هو مقاطَعة إسرائيل وشعبها، أو على الأقلّ عدم لمس هذه الجمرة الحارّة”.

احتجاج الطلبة في الجامعات الأميركيّة… نقطة تحوُّل

منذ منتصف نيسان الماضي، شَرَع طلبة رافضون للحرب الإسرائيليّة على قِطاع غزّة في القيام باعتصامات في عدد من أهمّ وأبرز الجامعات الأميركيّة، تطالب بوقف دائم لإطلاق النار في غزّة، وبإنهاء المساعدات العسكريّة الأميركيّة لإسرائيل، وبسحب استثمارات الجامعات من إسرائيل ومن شركات توريد الأسلحة وغيرها من الشركات المستفيدة من الحرب، وبالعفو عن الطلبة وأعضاء هيئة التدريس الذين تعرّضوا لإجراءات تأديبيّة أو للطرد بسبب الاحتجاج. في وقت لاحق، اتّسع الحراك الطلّابيّ والمظاهَرات إلى دول أخرى، من بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا والهند.

أهمّيّة هذه الاحتجاجات متعدّدة الجوانب؛ فهي تطالب وتضغط في اتّجاه توسيع المقاطَعة الأكاديميّة والاقتصاديّة لإسرائيل وللشركات الداعمة للحرب، وقد تشكّل كرةَ ثلج بالنسبة لمقاطَعة المؤسَّسات الإسرائيليّة. فضلًا عن هذا، تشكّل هذه الاحتجاجات صورة مختلفة عن إسرائيل في مؤسَّسات ومدن ودول كانت من الجهات الداعمة لإسرائيل على مدار عقود، ويمكن أن تسهم في تغيير الرأي العامّ العالميّ تجاه إسرائيل. من المتوقَّع أن تترجَم هذه المواقف في التصرُّف السياسيّ والانتخابيّ للطلبة وشريحة الشباب، ولا سيّما في الولايات المتّحدة في عام انتخابات للرئاسة ولثلث أعضاء الكونغـرس. من هنا، فإنّ ضغط هذا الاحتجاج مضاعَف؛ فمن ناحية هو يضغط على إسرائيل ومكانتها مباشرة، ومن ناحية أخرى يضغط على الإدارة الأميركيّة والرئيس بايدن لتغيير سياساته بسبب دعمه المطْلَق للحرب على غزّة، وعلى أعضاء في مجلسَيِ النوّاب والشيوخ الأميركيّ، فضلًا عمّا في ذلك من تأثير على الأجواء السياسيّة في العديد من العواصم الغربيّة.

إسرائيل تحاول تشويه احتجاج الطلبة

بادرت المؤسَّسات الإسرائيليّة، السياسيّة والأكاديميّة والإعلاميّة، إلى الهجوم على احتجاجات الطلبة متّهِمةً إيّاها بالعداء للساميّة، وبأنّها مموَّلة من قِبَل جهات معادية لإسرائيل. كذلك تحاول إسرائيل التقليل من أهمّيّة تلك الاحتجاجات، والادّعاء أنّها لا تمثّل المجتمع الأميركيّ، وأنّ المشارَكة فيها تقتصر على عدد قليل من الطلبة، وتحاول – قدر مستطاعها – وَصْمَ الاحتجاجات بأنّها عنيفة، وذلك بغية نزع الشرعيّة عنها، وتجنيد رأي عامّ مناهض لها. بِذا تسعى إسرائيل إلى خلق وعي لدى الجمهور الإسرائيليّ أنّ هذا الحراك هو ذو تأثير محدود، وأنّ دوافعه الأساسيّة هي كراهيَة إسرائيل، وأنّه لا علاقة لِما تقوم به إسرائيل من جرائم حرب في غزّة بانطلاق حركة الاحتجاج.

ردّ الفعل الأبرز على الاحتجاجات جاء من قِبل رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي وصف الاحتجاجات عبْر تغريدة على موقع إكس في الرابع والعشرين من نيسان (24/4/2024) بأنّها معادية للساميّة، وشبَّهَ حركة احتجاج الطلبة في الجامعات الأميركيّة بما حدث في الجامعات الألمانيّة في ثلاثينيّات القرن الماضي. القائل الواصف المشبِّه هو نتنياهو الخبير في السياسة الأميركيّة، الذي يدرك تمامًا مدى خطورة هذه الاحتجاجات على الرأي العامّ الأميركيّ وعلى متّخِذي القرار – ولا سيّما في عام هو عام انتخابات – ويعرف أنّ حركات احتجاج طلّابيّة أسهمت في الماضي في وقف حرب فيتنام وإسقاط نظام الأﭘـرتهايد في جنوب إفريقيا.

الصحافيّ نتنائيل شلوموفـِتْش وصف الاحتجاج في صحيفة “هآرتس” بأنّه مقلِق للغاية، وشبّهه باحتجاج الطلبة في الولايات المتّحدة في نهاية ستّينيّات القرن الماضي ضدّ حرب فيتنام، وذكّر بأنّ الأمر أدّى آنذاك إلى عدم ترشُّح الرئيس الأميركيّ، ليندون جونسون، وخسارة الحزب الديمقراطيّ للانتخابات عام 1969. إسرائيل منزعجة لأنّها متخوّفة من خسارة الدعم الأميركيّ إذا ازدادت وتيرة الاحتجاجات، ولأنّها تعي أنّ انتشار التظاهرات في جامعات العالَـم قد يشير إلى تحوُّل في مواقف الجيل الشابّ تجاه إسرائيل وتجاه القضيّة الفلسطينيّة.

الصحفيّ أنشيل بيبير (من صحيفة “هآرتس”)، على الرغم من انتقاداته لتعامُل نتنياهو مع حركات الاحتجاج، يحاول التقليل من شأن تأثير حركات الاحتجاج على إسرائيل، إذ يقول: “ممنوع أن نبالغ في حجم تهديد الناشطين على إسرائيل أو اليهود. ففي نهاية المطاف، الحديث يدور عن أقلّيّة صغيرة لديها امتيازات حتّى في أميركا الليبراليّة. وكلّما ازدادت أعمال الشغب واتّخذت طابعًا أكثر عنفًا ومعاداةً لليهود، فَقَدَ المتظاهرون الدعم الشعبيّ. وذاك ليس بالضرورة بسبب التعاطف الواسع الذي لا يزال قائمًا نحو إسرائيل في أميركا، بل لأنّ التهديد الحقيقيّ لهذه الاحتجاجات هو على الديمقراطيّة الأميركيّة نفسها”.

يارون فريدمان، المحاضر في جامعة حيفا، يكتب في موقع صحيفة “معاريف” قائلًا: “إنّ النجاح المخزي الذي حقّقته الاحتجاجات المناهِضة لإسرائيل والمؤيِّدة لحماس في الجامعات في الولايات المتّحدة يرتبط بحقيقة أنّها ليست عفْويّة على الإطلاق، بل إنّها منظَّمة ومموَّلة على نحوٍ جيّد”. ويدّعي فريدمان أنّ مَن يقف وراء هذا التمويل هي دولة قَطَر وحركة الإخوان المسلمين. ويوضّح أنّ التحوُّلات في الجامعات الأميركيّة في العَقد الأخير أوسع ممّا يظهر حاليًّا، مضيفًا أنّها تعكس حصول تغيُّر في المفاهيم الأكاديميّة والنظريّة المستعمَلة لفَهْم إسرائيل والصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، من خلال استعمال مقارَبات الاستعمار الاستيطانيّ، وتسطيح الصراع الدائر بين قامع ومقموع، والابتعاد عن تعقيدات الحالة.

وقد رأى داني ديّان – الرئيس الحاليّ لمؤسَّسة “يادْ فشِيمْ” (المتخصِّصة في تكريس ذكرى اليهود الذين قُتِلوا في المحرقة النازيّة) والقنصل العامّ لإسرائيل في نيويورك سابقًا – أنّ إسرائيل تخسر الجامعات الأميركيّة، وأنّ السرديّة السائدة مناهِضة لإسرائيل، وترى فيها مشروعًا استعماريًّا استيطانيًّا غير شرعيّ، مضيفًا أنّ هذا الخطاب هو المنتشر لدى المدرِّسين والطلبة، مشدِّدًا على خطورة الأمر.

إضافة إلى هذا، أدانت لجنة رؤساء الجامعات البحثيّة الإسرائيليّة الاحتجاجات في الجامعات الأميركيّة، واتّهمتها بأنّها “مظاهرات عنيفة ومعادية للسامية”، وأضافت أنّ “هذا التطوُّر المثير للقلق أدّى إلى خلق مُناخ يشعر فيه الطلبة وأعضاء هيئة التدريس الإسرائيليّون واليهود (في الجامعات الأميركيّة) بأنّهم مجبَرون على إخفاء هُويّاتهم أو تجنُّب الحرم الجامعيّ خوفًا من التعرُّض للأذى الجسديّ”. بِذا تبتغي لجنة رؤساء الجمعيّات الإسرائيليّة وَصْمَ الاحتجاجات بالعنف، ونزْعَ الشرعيّة عنها. إسرائيل تَعِي أنّ احتجاج الطلبة مؤشّر واضح وفوريّ على تغيُّر مكانة إسرائيل في الولايات المتّحدة وفي دول غربيّة عديدة. وهي تَعِي كذلك أنّ للجامعات الأميركيّة دَوْرًا كبيرًا في تشكيل صورة إسرائيل وروايتها، وفي المواقف تجاهها، وأنّ هؤلاء الطلبة شريحة مُهِمّة في تشكيل الوعي السياسيّ في تلك الدول، وأنّ قسمًا منهم سيصبحون ذات يوم من متّخِذي القرار – سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وفنّيًّا – وهم قادة المستقبل وصُنّاعه.

خاتمة: خسارة التضامن الدوليّ… خسارة إستراتيجيّة

إلى جانب المأزق العسكريّ والسياسيّ الإستراتيجيّ، نرى أنّ إسقاطات الحرب أصبحت أوسع، وقد تخسر إسرائيل التضامن والدعم العالميَّيْن، ولا سيّما التضامن الشعبيّ الذي استفادت منه في السابق. وباتت إسرائيل دولة منبوذة في الجانب الأكاديميّ والفنّيّ والثقافيّ والسينمائيّ، والاقتصاديّ إلى حدٍّ ما. زِدْ على ذلك اتّهامَ إسرائيل في المحكمة الدوليّة بارتكاب جرائم حرب وإبادة، واحتمالَ إصدار مذكّرات اعتقال ضدّ قيادات سياسيّة وعسكريّة إسرائيليّة من المحكمة الجنائية الدوليّة (وهو ما يؤرّق أيضًا المؤسَّسة الإسرائيليّة تأريقًا هائلًا)، وبدايةَ حدوث مقاطعات تجاريّة واقتصاديّة من بعض الدول (من بينها – على سبيل المثال لا الحصر – تركيّا). وفي الأيّام الأخيرة، نحن نشاهد الاحتجاجات الكبيرة في الجامعات الأميركيّة ضدّ حرب الإبادة على غزّة والمطالَبة بمقاطعة إسرائيل. وهي ليست مواضيع هامشيّة بتاتًا. إسرائيل استخدمت هذه الأدوات كافّة للترويج لدولة إسرائيل وتسويقها لتحسين صورتها دوليًّا، ولكسب تعاطف وتضامن المجتمعات الغربيّة. بل إنّها كانت تُعَدّ موردًا من موارد القوّة الإسرائيليّة، وأداة من أدوات الدبلوماسيّة الإسرائيليّة غير الرسميّة. فقدان أو تراجع هذه الموارد يضرّ بصورة إسرائيل وفي إمكانيّات التسويق والترويج، وتُعتبر خسارة إسرائيليّة في المدى البعيد.

هذه الجوانب مهِمّة وتؤثّر على صورة ومكانة إسرائيل في الرأي العامّ العالميّ، وتؤثّر على تشكُّل وعي المجتمعات الغربيّة تجاه إسرائيل والقضيّة الفلسطينيّة، وتعيد تعريف الصراع من جديد. تَراكُمُ هذه التحوُّلات في الساحة الدوليّة يشكّل عامل ضغط على الحكومات الغربيّة، ويؤثّر على صناعة القرار ومواقف الدول، وعلى صُنّاع القرار في إسرائيل، ولا سيّما التحوُّلات الجارية لدى فئات الشباب والطلبة والمؤسَّسات الأكاديميّة العالميّة والفنّيّة. هذه الجوانب لا تتعلّق بمواقف رسميّة تتّخذها الحكومات، وغير مرتبطة بمصالح الدول الرسميّة، ولا تتعرّض لابتزاز المؤسَّسات الصهيونيّة العالميّة، وتعكس المزاج العامّ الدوليّ الشعبيّ المتشكّل تجاه حرب الإبادة على غزّة. استمرارُ هذه الحالة وتعزُّزُها قد يتحوّلان إلى تأثير فعليّ وجِدّيّ على الحكومة الإسرائيليّة وصُنّاع القرار.



[ad_2]

Source link

Leave A Reply

Your email address will not be published.