[ad_1]
أعادت جريمة إبادة ٤٧ بيتًا عربيًّا في النقب أوائل شهر أيّار الحاليّ، وتشريد ٥٠٠ شخص، تذكير فلسطينيّي ال٤٨، بأنّ مخطّط المحو، الفيزيائيّ والثقافيّ والمعنويّ، هو المخطّط نفسه ضدّ عموم الشعب الفلسطينيّ، إذ كان هذا الجزء من شعب فلسطين، هم وأقرباؤهم اللاجئون المطرودون، أوّل ضحايا هذا المحو. تنوّعت أشكال هذه الحرب، الممتدّة على أكثر من مائة عام، بين إنكار لوجود شعب إلى وصفه بالبرابرة، إلى السلب والاستيطان، إلى الطرد والمجازر، مرورًا بالمحو الثقافيّ والتاريخيّ، و عبرنة معالم الوطن. وهذه الجريمة الجديدة، أي إبادة قرية فلسطينيّة بدويّة كاملة، من حملة المواطنة الإسرائيليّة، وهي جريمة ممتدّة، تضعنا مجدّدًا أمام سؤال الغفوة الطويلة الّتي أصابتنا، قبل الحرب ومستمرّة حتّى الآن، وقد باتت مؤرّقة، ومضرّة لأخلاقيّاتنا، بل خطيرة على حياتنا ومستقبلنا.
لم يشفع هدوء، أو كمون هذا الجزء من شعب فلسطين خلال العدوان الإباديّ الهمجيّ المتواصل على غزّة، كما لم يشفع له انخراط تيّار سياسيّ، إسلاميّ، في منظومة الإبادة، واستمراءه سياسة السمسرة، الّتي باتت مدرسة مفسدة معلنة في أدبيّاته وممارساته. وأيضًا، لم يشفع له لهاث أوساط قياديّة من داخل تيّار علمانيّ، عربيّ – يهوديّ، له تمثيل في الكنيست، وراء تشكيل تحالف مع تيّار “صهيونيّ ليبراليّ”، رغم أنّ هذا المصطلح بات هزليًّا أكثر من أيّ وقت مضى بعد الإيغال في الهمجيّة. فقد تواصلت السياسات التدميريّة، هدم البيوت وهدم المجتمع، من خلال تعمّق نهج إطلاق العنان للجريمة، فضلًا عن سياسات الملاحقة والإسكات والتنكيل بالأصوات المندّدة بحرب الإبادة.
دأب رموز التيّارين المذكورين أعلاه، سواء المتصهين أو المتأسرل، في تحميل المسؤوليّة عن العنف المرعب الّذي نشهده، إلى الفاشيّين بن غفير وسموترتش. وكان رموز هذين التيّارين، وقبل أن يصبح هذان الفاشيان وزيرين، قد صوّروا نتنياهو وعمليّة تغييره عنوان المعركة الانتخابيّة والسياسيّة. وهكذا تمّ تصنيع الوهم بأنّ إزاحة نتنياهو عن الحكم يعيدنا إلى حالة إسرائيليّة طبيعيّة. والحالة الطبيعيّة، عمليًّا، هي منظومة السياسات الماكرة، الّتي اعتمدت منذ عام ١٩٤٨، لتكريس نظام أبارتهايد غير رسميّ، حقن بمنح حقّ التصويت للفلسطينيّين الّذين نجوا من التطهير العرقيّ، وكلّ ذلك تمّ تحت حكم عسكريّ مباشر، امتدّ لعقدين من الزمان، جرى خلاله، بموازاة القمع والرقابة وتقييد الحركة، ترسيخ نظام أبرتهايد مخفيّ عن العالم، اشتمل على الاستيلاء على أملاك الفلسطينيّين المطرودين، وغالبيّة أملاك من نجى وبقي في الوطن.
لا ينتبه كثيرون، إلى أنّ أوّل إجراء للابرتهايد قد تمّ تطبيقه، وبوحشيّة،هو فصل مئات آلاف الفلسطينيّين الّذين تمّ تشريدهم عن وطنهم، ومنعهم من العودة بفعل قانون الإحصاء، والّذي يسدّ باب العودة أمام كلّ من غاب قسرًا، من الفلسطينيّين، عن البلاد في زمن إجراء عمليّة الإحصاء. طبعًا تمّ تعزيز نظام الفصل العنصريّ هذا بقوانين عنصريّة وكولونياليّة أخرى مثل قانون العودة، وقانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل، وأملاك الغائبين.
لا شكّ أنّ مشهد الصراع الحاليّ بالغ الوحشيّة، وغير مسبوق من حيث مستوى همجيّته، في ظلّ هذا النظام الصهيونيّ، برئاسة نتنياهو، وزمرته الفاشيّة. ولكنّ البعض يجهل أنّ الأنظمة الكولونياليّة الاستيطانيّة، الإحلاليّة، ومن خلال مراجعة تاريخها، تكون دائمًا محمّلة بإيدلوجيّة إنكار وجود شعب آخر، أو إنكار إنسانيّته، ممّا يعني شرعنة السيطرة عليه، واستعباده، وفي حالة مقاومته تجري إبادته. يظلّ المستعمر معتمدًا سياسة الهيمنة والاستغلال والاستعباد، طالما بقي الشعب الاصلانيّ ضعيفًا وسلبيًّا وعاجزًا عن المقاومة الشاملة. وحين ينتفض الشعب، ويتحرّك بصورة منظّمة، ويستنهض عناصر قوّته وحيويّته، وطاقته، بهدف إزاحة نير الاستعباد عن كاهله، ينتقل من الهيمنة والقمع المعقلن والاحتواء إلى البطش الوحشيّ المباشر، وصولًا إلى مرحلة الإبادة.
النظام الصهيونيّ، هو في انطلاقته الأيدلوجيّة نظام إباديّ، هو أساسًا امتداد لمنظومة أوروبّيّة كولونياليّة، أدمج فيها البعد التوراتيّ المتعلّق بالوجود التاريخيّ لليهود في فلسطين، أي اليهود واليهوديّة الّذين هم أصلًا جزء من المنطقة وتراثها وتاريخها، ولا علاقة ليهود أوروبا بها، كما جاء في كتاب، “إسرائيل واقع استعماريّ” الصادر في سبعينات القرن الماضي، للمفكّر اليهوديّ الفرنسيّ الراحل، ماكسيم رودنسون.
ساهمت في تسريع عمليّة تأسيس إسرائيل عام ١٩٤٨ الجرائم النازيّة بحقّ يهود ألمانيا وأوربا، وهي أيضًا نتاج مخطّط أوروبّيّ صهيونيّ قديم وبدعم الاتّحاد السوفييتيّ، إذ اعتقد الحزب الشيوعيّ السوفييتيّ بقيادته الستالينيّة، بأنّ إقامة دولة يهوديّة في فلسطين، تصبّ في مصلحته، متمثّلة بطرد المستعمر البريطانيّ، وفي الوقوع بالوهم بأنّ إسرائيل ستتحوّل إلى دولة اشتراكيّة.
وقد واصل الغرب تمجيد دولة إسرائيل كدولة “تجسّد حقّ تقرير المصير للشعب اليهوديّ”، و “الدولة الديمقراطيّة الليبراليّة الوحيدة في المنطقة”، في الوقت الّذي كانت تمارس التمييز والقمع بحقّ من نجى من التطهير العرقيّ، وتخضعهم لنظام عسكريّ محكم، والظلم الفاحش بحقّ من كانوا من المفترض أن يكونوا مواطنين في الدولة اليهوديّة، أي اللاجئين. بل لم يعد خافيًا أنّ فكرة طرد البقيّة الباقية من الشعب الفلسطينيّ ظلّت تدغدغ خيال القيادات الإسرائيليّة من خلال استغلال ظرف طارئ. بل كان هناك حزب شعاره الترانسفير، ممثّلًا في الكنيست منذ الثمانينات.
وهكذا تمّت إقامة إسرائيل كديمقراطيّة غربيّة إجراميّة، أي تحقيق أغلبيّة يهوديّة مطلقة من خلال الطرد والمجازر، وذلك لتفادي إقامة نظام أبارتهايد سافر ومكشوف. ولكنّ صمود الشعب الفلسطينيّ في وطنه، وتمكّنه من إدارة صراعه مع حكومات الأبرتهايد المتتالية، بطريقة جنبته ردّ فعل بالغ الوحشيّة، وهي طريقة النضال السياسيّ والشعبيّ والقانونيّ، وفي القلب من ذلك المقاومة الثقافيّة. وهذه المقاومة ساهمت في إعادة بلورة هويّته الوطنيّة الفلسطينيّة وتعزيز انتمائه مع عموم الشعب الفلسطينيّ، والتفاعل مع مسيرته التحرّريّة. ولكن مع تفجّر الحدث الزلزاليّ، في ٧ أكتوبر، وما تلاه من ردّ فعل إسرائيليّ همجيّ، وكلّ ما رافقه ويرافقه من تداعيات كارثيّة على حياة الشعب الفلسطينيّ، كلّ الشعب الفلسطينيّ، بتنا نقف أمام أسئلة جديدة كبرى ومصيريّة.
ما هي الخيارات والفرص المتاحة أمامنا، نحن فلسطينيّو الـ48؟
يغلب على المشهد العامّ، بين الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر الأصوات المعبّرة عن تيّار متهافت سياسيًّا وأخلاقيًّا، يتغذّى من، ويستند إلى رضا الدولة العميقة، الّتي تعتبره الصوت المنتظر طويلًا من فلسطينيّي ال٤٨، كبديل عن الصوت الوطنيّ الواقعيّ، الّذي يأبى إلّا أن يدمج، بحكمة وتبصّر، بين ضرورات المواطنة والهويّة الوطنيّة وما يترتّب عنها من عدالة ومساواة فرديّة وجماعيّة. وربّما يدغدغ المديح والتقدير، الصادرين عن أصوات إسرائيليّة من داخل الدولة العميقة، لـ”هدوء” المواطنين العرب، مشاعر رموز تيّار السمسرة والمقايضة. وربّما تشعر المؤسّسة الصهيونيّة بأنّ ثمار سياساتها الطويلة القمعيّة والاحتوائيّة قد تحقّقت. ولا تخلو هذه الأصوات الصهيونيّة الرسميّة وغير الرسميّة من خبث ونفاق، فهي تعرف أنّ من خضع لسياساتها نابع من دواع براغماتيّة، وهي براغماتيّة مفرطة ومضرّة في هذه الحالة، وفي عرفنا مفرطة بتاريخ طويل من النضال الوطنيّ المنظّم. وأيضًا، وحقيقة، يصدر هذا المديح ممّا يسمّى بالمعسكر الصهيونيّ الرسميّ على الخصوص، المنخرط كلّيًّا بحرب الإبادة، بدافع مواجهة ومناكفة حكومة نتنياهو الّذي دأب على التحريض ضدّ العرب وضدّ استئثار حكومة التغيير الصهيونيّة بزعامة بينيت ولبيد بما يعتبره غنيمة، بعد أن كانت في متناول فم حكومة نتنياهو.
لا ننكر وجود قاعدة شعبيّة لتيّار السمسرة والمقايضة، وهذا ليس دليلًا على صحّة النهج، بل هو دليل على خطورة التآكل في الوعي الجمعيّ، واستبداله بنهج انتهازيّ تفريطيّ. فالجماهير أو شرائح معيّنة من الناس تؤخذ في الأوقات الصعبة بالغلبة، المعقّدة في هذه الحالة، الّتي تتغذّى من عنصري الترهيب والإغواء، وتحكمها السطحيّة والجهل في فهم السياسة.
لم ينحدر الوضع دفعة واحدة، ولم يأت من فراغ. أنّه نتاج عوامل عدّة، منها تجديد وتحديث القبضة الأمنيّة، ومحاصرة التيّار الوطنيّ ببعده العلمانيّ والدينيّ، وتحلّل وضمور الجسم السياسيّ العربيّ، ممثّلًا بالأحزاب السياسيّة، ولجنة لمتابعة واللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحلّيّة. يضاف إلى ذلك، تغيّر وتبدّل أولويّات جيل كامل من النشطاء، من خلال الانسحاب إلى الفردانيّة، أو اختزال العمل الوطنيّ، الثقافيّ والإعلاميّ، في حلقات صغيرة، هي مهمّة وضروريّة، ولكنّها تفتقر إلى الإرادة، والخيال بمشروع جماعيّ، سياسيّ تحرّريّ محلّيّ، أو عابر للتجزئة.
لا يزال للتيّار الوطنيّ أرضيّة قاعدة واسعة، من فئات حزبيّة متمرّدة، ولا أقول أحزاب، وفئات شعبيّة، وأطر نسائيّة، ومثقّفون وطلبة، وشباب. وقد جاءت حرب الإبادة لتعمّق المعرفة والثقافة والوعي بخطورة المشروع الصهيونيّ في أوساط هذه الفئات، ولكنّه عاجز حتّى الآن عن تحقيق اختراق وتحقيق نقلة نوعيّة من التنظير إلى الممارسة. أي لم يتشكّل عنوان لكلّ ذلك، حتّى اللحظة.
يمكن لحزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، وبعد أن استعاد خطابه الوطنيّ الديمقراطيّ، واستقطب فئات شعبيّة جديدة، ظهرت جليّة في انتخابات الكنيست الأخيرة، وبعد أن أثبت أنّه يستطيع أن يستمرّ في العمل، خارج البرلمان، وإن بحدود معيّنة، يمكن أن يؤدّي دورًا محوريًّا في بلورة تيّار وطنيّ واسع في مواجهة تيّار التصهين العربيّ ومدرسته الفاسدة. ويصبح هذا الحزب ذا شأن أكبر، وتتعزّز جذريّته وبصيرته، عندما ينخرط بوعي كامل في المبادرات الوطنيّة الفلسطينيّة، الّتي تسعى إلى تجسيد شعار وحدة القضيّة والأرض والشعب. يضاف إلى ذلك واجبه وحاجته إلى الانخراط والمساهمة في تشكيل تيّار ديمقراطيّ تحرّريّ، يشارك فيه اليهود المناهضون للأبرتهايد والاستعمار كحلفاء حقيقيّين، من أجل مستقبل مشترك، من في فلسطين التاريخيّة، يقوم على العدالة والمواطنة المتساوية.
مؤخّرًا، تزداد المبادرات الوطنيّة أو الأصحّ المحاولات المستقلّة، لتأطير النقاش، حول ما يجري، وكيفيّة تفعيل الطاقات المختزنة. صحيح أنّ الظرف الحاليّ خطير، وفي الأفق أيضًا ملامح لسيناريوهات خطيرة، ولكن في الوقت نفسه هناك فرص متوفّرة للعمل والإبداع والحراك، بعد اتّساع التأييد الجارف لقضيّة العدالة في فلسطين، خاصّة وأنّ تفاعلات الانتفاضات الجامعيّة في الغرب مرشّحة للتعاظم والاتّساع طولًا وعرضًا. نعم ليس الواقع جامدًا أو عاقرًا، بل يختزن إمكانات كبيرة وواعدة.
يحتاج فلسطينيّو الداخل، وخاصّة المثقّفين، وطلائع الجيل الجديد المثقّف، وقيادات حزبيّة سابقة، أو حاليّة، الّذين ينخرطون في نقاشات في أطر فلسطينيّة عابرة للتجزئة، الّتي يتلخّص هدفها بإعادة تعريف المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ التحرّريّ، واختيار قيادة وطنيّة ديمقراطيّة، بالانتخاب أو بالاتّفاق، يحتاجون إلى الانشغال في فهم ما استجدّ على واقعهم في ظلّ العيش تحت المواطنة الإسرائيليّة، وهو واقع متكدّر، في الأصل، وازداد تعقيدًا بعد حرب الإبادة. يحتاجون إلى إعادة تقييم علاقتهم بالدولة الإسرائيليّة، وفهم علاقتهم بالقضيّة الفلسطينيّة، وبالمشروع التحرّريّ. كما يحتاجون إلى التوقّف مطوّلًا ومعمّقًا، أمام قصور، أو نقص التفاعل مع مجزرة العصر، وإلى تفسير الأسباب الصحيحة لهذا القصور وعدم الاكتفاء بعزو ذلك إلى تعاظم القمع، وهو سبب لا يجوز الاستخفاف به. نحتاج إلى التوقّف أمام ما بدا وكأنّ إسرائيل أعادت إنتاج هذا الفصل، بين أجزاء الشعب الفلسطينيّ. ليست الخطورة كامنة هنا فقط، أي بما يتعلّق بالتفاعل مع معاناة شعبنا، بل أيضًا في غياب الحراك والاحتجاج العارم ضدّ كلّ ما يخطّط وينفذ ضدّهم كلّ يوم، على صعيد الحقوق الأساسيّة، في مسائل كالأرض والاقتصاد والتعليم، والأمن الاجتماعيّ. أنّنا نشهد تسارع تآكل مواطنتهم، والّذي توّج قانونيًّا بتمرير قانون القوميّة عام ٢٠١٨. وقانون القوميّة ليس مسألة قانونيّة شكليّة، بل يجري تطبيقه على الأرض من خلال زيادة صلاحيّات أذرع النظام لتحجيم الفعل السياسيّ، وتقليص ما تبقّى من حيّز جغرافيّ، بل تقليص الوجود الديمغرافيّ المتلاشي أصلًا، عبر هدم البيوت، والإفقار، والجريمة. كلّ ذلك يصبّ في مشروع التطهير العرقيّ، وتعزيز يهوديّة الدولة، وتوطيد منظومة الأبرتهايد الكولونياليّ.
نحن نواجه حالة خطيرة تتمثّل في سعي المؤسّسة الصهيونيّة الحثيث إلى تجريدنا من أدوات التأثير، والمقاومة؛ عبر سلب حرّيّة التعبير عن هويّتنا الوطنيّة والجمعيّة، وتذرير مجتمعنا ودفع أفراده إلى الانزواء، والسقوط في وهم تحقيق الهموم الفرديّة والجمعيّة من دون تنظيم أو تنظيمات أو نضال جماعيّ. إنّ الهدف النهائيّ لمنظومة القهر هو إلحاقنا جميعًا بسياسات السمسرة، الّتي تعني نزع إنسانيّتنا، من خلال الاكتفاء بالأكل والشرب، وتحويل الصلاة من عبادة اللّه وإغاثة الملهوف والتضامن مع المجموع، والعمل الشعبيّ، إلى طقوس وشعائر بلا روح أو مضمون أخلاقيّ.
هناك من يظنّ واهمًا أنّ الإخضاع (أو الخضوع) يمكن أن يستتبّ ويدوم، مع أنّه حتّى في ظرفنا الحاليّ ليس خضوعًا مطلقًا أو دائمًا، فالحياة تحمل المفاجئات، والمجتمعات تتطوّر والوعي فيها يتجدّد. إنّ الجديد، الخارج من رحم القديم، يتشكّل تدريجيًّا عبر صيرورة من المدّ والجزر، ليخرج كالعاصفة. وإن لم يخرج على هذا النحو العاصف، فإنّه يمكن أن يتحقّق بخطوات مدروسة، ومراحل متتالية من الإعداد والعمل المعقلن، والمنهجيّ، والصبر الطويل، وهذا ما نستطيع، وما يجب عمله الآن وليس غدًا.
إنّ تصعيد التفاعل مع معاناة شعبنا في غزّة، ليس واجبًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا فحسب، بل هو حماية لأنفسنا نحن، فلسطينيّو الداخل. إنّ استمرار غياب التفاعل بالمستوى المطلوب من شأنه أن يحدث المزيد من الخراب الاجتماعيّ، والأخلاقيّ، الداخليّ.
هناك أفكار وتصوّرات كثيرة ومهمّة للعمل وفرصًا جديدة للتحرّك، وقد أتى عليها العديد من المثقّفين والنشطاء في مقالاتهم ومداخلاتهم في الندوات والإعلام. ما يغيب عن الجميع هو تكثيف اللقاءات وتحويل الأفكار إلى خطط عمليّة مفصّلة، وثانيًا إلى تكثيف المشاركة في الحراكات والتظاهرات والنشاطات الّتي تنظّمها اللجان الشعبيّة ولجنة المتابعة، رغم القصور الفادح الّذي يعتري هذه المؤسّسة، من حيث التنظيم والتخطيط والمأسسة. ومع التصاعد الملحوظ لهذه الحراكات، وعلى تواضعها حتّى الآن، تتولّد فرص جديدة لإطلاق الإرادة والمخيّلة السياسيّة، والتمكّن من بلورة معالم المشروع السياسيّ الديمقراطيّ المنشود خاصّة بعد الحدث الزلزاليّ في غزّة، وفلسطين، والعالم.
ويمكن تلخيص ثلاثة عنوانين، من عدّة عناوين أخرى، لأيّ حراك وطنيّ منشود؛
الأوّل، إعادة الانشغال في تعريف من نحن، ينتهي ببلورة خطاب وطنيّ ديمقراطيّ، يعرف النظام الإسرائيليّ كنظام فصل عنصريّ واستعمار كولونياليّ، وقضيّة فلسطين قضيّة تحرّر وطنيّ ديمقراطيّ، ينجز إمّا عبر النضال بإقامة دولة فلسطينيّة كاملة السيادة، وضمان حقّ اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، وتحقيق المساواة الكاملة الفرديّة والجماعيّة، كخطوة أولى نحو الدولة الواحدة كما يعتقد أنصار الحلّ المرحليّ، وهو في نظري لم يعد واقعيًّا، أو تبنّي حلّ الدولة الديمقراطيّة الواحدة وتحقيق العدالة والمساواة لكلّ من يعيش بين البحر والنهر، ومن طرد من وطنه. وهذا بحدّ ذاته، أيّ كيفيّة ممارسته على الصعيد العمليّ، وعلى صعيد الرؤية في سياق الواقع الإسرائيليّ، يحتاج إلى دراسة جدّيّة وحوار وتفكير عميقين.
الثاني؛ إعادة طرح تنظيم المؤسّسات القطريّة التمثيليّة والمهنيّة لتكون معبّرة عن إرادة الناس. وبما أنّ كلّ الجهود الّتي بذلت في هذا الاتّجاه منذ ثلاثة عقود، فشلت وأنتجت خيبات متتالية، فهناك حاجة إلى إعادة تنظيم التيّار الوطنيّ الديمقراطيّ، بتنوّعه الأيدلوجيّ والعقائديّ والجيلي، ليكون قادرًا في المستقبل على الانخراط في هذه المهمّة، الوطنيّة والمهنيّة، وهي مهمّة باتت معقّدة، وصعبة وتحتاج إلى تجدّد وابتكار وتفكير إبداعيّ، ولا يقوى على القيام بها سوى الجيل الجديد، مدعومًا بالمخضرمين الملتزمين. وشرط تحقّق الاضطلاع بهذه المهمّة، استعداد وتبلور طليعة ذات إرادة حقيقيّة، مبدعة وشجاعة من هذا الجيل. ونهوض هذه الطلائع وتوسيع خيالها، لا يحتمل التأجيل.
الثالث، إعادة التأكيد على المقاومة بأشكالها المدنيّة، الشعبيّة والسياسيّة والثقافيّة والقانونيّة، وتطوير آليّاتها، وأدواتها. وهي المقاومة الّتي اعتمدها الفلسطينيّون داخل الخطّ الأخضر منذ عام ١٩٤٨، كما كان تكتيك الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى.
الرابع؛ العمل بصورة جدّيّة على بناء أوسع جبهة عربيّة يهوديّة، مناهضة للإبادة والاحتلال والاستعمار والصهيونيّة، جبهة تتبنّى رؤية تحرّريّة إنسانيّة تؤسّس لمقاومة مشتركة، وحياة مشتركة، تقوم على العدالة أوّلًا، والمساواة ثانيًا، والسلام ثالثًا. كلّ ذلك على أنقاض نظام الأبرتهايد الكولونياليّ الاستيطانيّ الّذي عرته غزّة بالكامل أمام شعوب العالم المنتفضة، بعمّالها وطلّابها ومثقّفيها.
[ad_2]
Source link