تضامن الجنوب العالميّ وإعادة ترتيب أوراق توازن القوى

[ad_1]

أشعلت حرب الإبادة على قطاع غزّة فتيل النقاشات حول الماهية الحقيقية للتضامن الحقيقي مع الفلسطينيّ والمعنى الأساسيّ للتضامن. ومن هنا، نرى سهولة التكلّم بشعاراتٍ رنّانة بينما يصبح العمل الجاد والمادّي على الأرض أمرًا نادرًا. وفي خضم هذه النقاشات -وربما بسببها أيضًا- قد قامت دولة جنوب إفريقيا بتقديم دعوتها بقضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية. والسياق الرسميّ هنا لا يمكن عزله عن الشعبيّ: حيث يكنّ شعب جنوب إفريقيا المودّة والحبّ للثورة الفلسطينية وكفاحها، حيث يعرفون جيّدًا حقيقة أن تعيش تحت نير الاستعمار ويدركون السُبُل التي يجب أن تُستعمل للتحرّر منه. والأمر هنا تجاوز حيّز الشعارات ودخل مربع التضامن المادّي والملموس، كالتدريب المشترك بين مقاتلي الفصائل المنضوية تحت مظلّة منظّمة التحرير الفلسطينية والمؤتمر الوطني الإفريقيّ. وهذا الوعي قد تبلور أيضًا من رحم الترابط الاستعماري بين نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والكيان الصهيوني، حيث أرسلت الأخيرة الضباط لمساعدة هذا النظام بقمع حركات التحرّر السوداء في القارّة الإفريقيّة.

وحتّى كتابة هذه الأسطر، نرى إجراءاتٍ عديدة قد اتخذتها حكومة جنوب إفريقيا: من قطعٍ لجميع العلاقات الدبلوماسية التي تربطها مع الاحتلال، وإغلاق السفارة الإسرائيلية، علاوةً على طرد السفير الإسرائيلي وتقديم دعوتها ضد الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية. وبطبيعة الحال، يمكننا أن نتساءل عن فاعليّة القانون الدولي، أو نوجه انتقادات نصب تلك الخطوات، منها وجود سفيرٍ يمكن لجنوب إفريقيا طرده من الأساس، ولكن إذا قورنت إجراءات جنوب إفريقيا بتلك التي اتبعتها الدول “الشقيقة”، سوف نرى عمق هذه الخطوات لدولةٍ ليست عربية وتقع على الجانب الآخر من العالم. باستثناء لبنان واليمن والعراق -الذين يقاتلون مع غزّة يوميًا- فلم تقم أي دولةٍ عربية بخطواتٍ عملية لمعاقبة أو مواجهة إسرائيل. وعليه، فإن إجراءات جنوب إفريقيا قد فاقت التوقعات. نظراً لذلك، وعلى الصعيد الشخصي، فإن شعور الاستغراب لا يكاد يفارقني عندما استمع للسؤال الروتينيّ لبعض الناس عن جدوى مشاركتي لجلسةٍ مع بعض النشطاء من جنوب إفريقيا، حيث يسألونني بكلّ جديةٍ مرةً تلو الأخرى: “لماذا تتناقش معهم وهم معنا؟”.

ولعلّ هذه العقلية تلخّص نزرًا يسيرًا من الإشكالات التي نعانيها في نظرتنا تجاه الجنوب العالمي، فحوى تلك العقلية تتجسّد بالقناعة الراسخة التي تقول إنّ هذا الجنوب، وبسبب معاناته من الإمبرياليتين الأوروبية والأميركية، لديه علاقةٌ عضوية بالفلسطينيين ويمكن الاعتماد عليه بشكل تلقائي في دعم القضية الفلسطينية. بيد أنّ هذه النظرة مثالية ولا تاريخية، ولا تأخذ بعين الاعتبار دولةً مثل الهند، التي كانت في زمنٍ سحيق القلب النابض لحركة عدم الانحياز، وارتدادها السياسي إلى معسكر الاحتلال حيث تمسّخت لكيانٍ رجعي فاشيّ مبنيّ على أساس التفوّق العرقيّ.

بشكل عام يعلمُ شعب جنوب إفريقيا بوجود استعمارٍ استيطانيّ في فلسطين، ويعلم أنّ هناك احتلالًا، وهو على دراية بالكثير من الفظائع التي تمارس بحقّ الفلسطينيين. لكنّ هذا الإدراك، بالرغم من أهميته، لا يتعدّى الخطوط العريضة المجرّدة للقضية. لكي نضع مثالًا عمليًا عن هذا القول: عند الحديث مع أي شخصٍ من جنوب إفريقيا، سوف نرى بأن هذا الشخص -على سبيل المثال لا الحصر- ليس على دراية بالتقسيم المفروض على فلسطين، ولا يستطيع التمييز بين أراضي الـ48، الضفّة الغربية، وقطاع غزّة. من هنا ننطلق بالقول إنّ مثل هذه المعلومات المنقوصة عن فلسطين تعدّ أمرًا خطيرًا للغاية، حيث يُستخدَم هذا الجهل كأرض خصبة لنشر البروباجاندا الصهيونية المضلّلة بالأوساط الشعبية في جنوب إفريقيا. ولكن لا يمكننا لوم شعب جنوب إفريقيا عندما لا يعلم تفاصيل القضية الفلسطينية نظراً إلى عدم علم أغلب الفلسطينيين بتفاصيل صراع جنوب إفريقيا. لا يمكن لنا أن نعدّ مأساة جنوب إفريقيا أثرًا قديمًا من زمانٍ قديم، فبالرغم من مضي 33 عاماً على إعلان النهاية الرسمية -والشكلية – لنظام الفصل العنصري، ما زال هذا الشعب يناضل لتطبيق حقّ عودته للمدن والأراضي التي تم تهجيرهم منها. إن نظرنا إلى حال اللاجئين لديهم في بلداتهم المبنية من “الزينكو”، فسوف نرى تربطنا القريب، حيث تظهر آثار حملات التطهير العرقيّ التي هدفت لمحو الشعوب الأصلانية وإفساح المجال للاستيطان كما الحال اليوم في فلسطين.

وللتوسّع في هذه الظاهرة، لا يمكن للمرء أن يغض بصره عن منطقتنا العربية ويتكلّم فقط عن الجنوب العالميّ وجنوب إفريقيا. حيث ننظر إلى التضامن مع فلسطين بين الشعوب العربية كأمر مسلّم به، وعادة ما نسمع عبارات مثل “إنّهم يعلمون خير العلم بنا وبقضيتنا”. هذه العقلية أدّت لنتائجٍ مأساوية يمكننا رؤية معالمها بوضوحٍ مزعج، فقد أدت إلى انتشار كمية كبيرة من المعرفة السطحية عن فلسطين، وفي خضم التكثّف الملحوظ في مسيرة الحكّام العرب التطبيعية، فإنّ كل وأي سوء فهمٍ عن فلسطين سوف يستخدم للتقليل من شأن قضيتها. ومن أعراض هذه المعرفة السطحية هو شعور الدهشة الذي ينتاب الإنسان العربيّ عندما يعلم -ولأوّل مرةٍ في حياته- بوجود فلسطينيين داخل أراضي الـ48، حيث يتم استغلال وجودهم كدليلٍ على أن الفلسطينيين ليسوا مقموعين بالدرجة التي قد تخيّلوها وأن بعضهم قد بقوا في أراضيهم ولم يتم إجبارهم على الرحيل. نرى هنا استكمال تلك المعلومة بأكذوبةٍ مستشرية مفادها أن الفلسطينيين داخل أراضي الـ48 يعدّون مواطنين متساويين بالحقوق المدنية مع “نظرائهم” الإسرائيليين بفضل عدالة إسرائيل الديمقراطية المزعومة.

في ختام هذه النقطة، يجب التشديد على أن الأخذ بالتضامن كأمرٌ مسلمٌ به مهّد لعدم شعور الناشطين الفلسطينيين بالحاجة لاستثمار الوقت أو الجهد والتفاعل مع الجنوب العالمي أو حتى العالم العربي بشكل جاد، وكل هذا يعزى لعقلية “إنهم يقفون بجانبنا بطبيعة الحال”. وبالرغم من كل هذا، فإن هناك لدى الذين يتجاهلون ضرورة إعادة إحياء روابطنا مع الجنوب العالميّ فسحةً لامتناهية من الوقت والجهد لتثقيف الأوروبيين والأميركيين حول قضيتنا بالرغم من كون هؤلاء مستفيدين من تشريدنا ونكبتنا. هذا العناد بالمضيّ قدمًا، مرةً تلو المرة، في طريقٍ مسدود عماده التملّق بالدول الاستعمارية، المبنيّ على ظنٍ خاطئٍ بأننا سوف نرى ثمرة هذه الجهود بإتيان تلك الدول لنجدتنا، هو أسلوبٌ لم يثبت نجاعته بأي شكل من الأشكال عبر التاريخ؛ من الوفود إلى لندن إبّان الانتداب البريطانيّ حتى أفواج الاعتمار إلى البيت الأبيض.

إن التضامن هنا ليس فعلًا جامدًا يشبه المعاملات التجارية، بل عمليةً متحرّكةً تحتاج الرعاية والتطوير على صعيد الطرفين المتضامنين. لا تعبّر هذه العقلية إلا عن إساءةٍ واضحة لإرث وتاريخ قضيتنا عندما يتم التعامل معها -أي فلسطين- كأنّها القضية المحورية الوحيدة في عالمنا، بالرغم من مركزية فلسطين كجبهةٍ مهمة في الصراع مع الإمبريالية العالمية. هذه الحقبة، أي حقبة تضعضع قبضة الهيمنة الأميركية على عالمنا وإعادة ترتيب أوراق توازن القوى عالميًا، تعدّ فرصةً مواتية لعقد رباط علاقاتنا مع الجنوب العالميّ. من خلال هذه العلاقات يمكننا، وأخيرًا، بناءُ عالمٍ خالٍ من غطرسة وهيمنة الغرب الاستعمارية، ولا يمكن لذلك المستقبل المشرق أن يبصر النور إلّا بنبذ الأسلوب الذي يعامل صوت الغربيّ بأهليةٍ أسمى من نظيره في الجنوب العالميّ. كل ما قيل سابقًا يدلّل على أن هناك دربًا آخر ينتظرنا، دربٌ كان قد يجب علينا ترصيف حجارته منذ وقتٍ طويل.


فتحي نمر هو الزميل السياساتي للشبكة في فلسطين. عَملَ في السابق باحثًا مشاركًا في مركز العالم العربي للبحوث والتنمية، وزميل تدريس في جامعة بيرزيت، ومسؤول برامج في مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان.



[ad_2]

Source link

Leave A Reply

Your email address will not be published.